مسلم بن الوليد

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

تحليـــــــل أبيـــــــــــــات

مسلـــــــــم بــــــــــن الوليــــــــــــــد

 

في

مدحــــــــــة لزيــــــــــد بن مسلم الحنــــــــفي

 

 

البحث مقدم من:

الطالبة/ شعاع ضيف الله البلوي

الرقم الجامعي: 0634182

 

إشراف الدكتورة الفاضلة/ ابتسام با حمدان

 

 

 

المادة: الأدب في العصـــــــر العباسي

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين ..

هذا بحث أدبي بسيط أقدم فيه تحليلاً مبسطاً وشرحاً ميّسراً لقصيدة من قصائد شاعر معروف من شعراء العصر العباسي الزاهر،وشاعرنا هو مسلم بن الوليد،والملّقب بصريع الغواني.

وبحثي هذا حاولت فيه بكل جهدي،وعلى قدر استطاعتي،وعلمي القليل أن أقدم فيه عملاً مرضياً لكل من يقرؤه ولعله يكون سبيلاً لمعرفة بعض من أخبار الشاعر،وفهم معانيه الشعرية والتعرف على أغراض شعره.

وقد اخترت هذه القصيدة في مدح صريع الغواني لزيد بن مسلم الحنفي، لكي أرى مدى إجادة وإتقان مسلم بن الوليد من المدح، وإلى أي مدى ابتكر في هذا المدح،وكيف كان شعره سبيلاً للحصول على المال والتكسب.

سيما أنه من شعراء المدح لمعروفين، ومن الشعراء الذين ركبوا بحر المديح فأجادوا وأبدعوا ولربما شعره في المدح أصبح مثالاً يحتذى. فمن أجل ذلك كله اخترت هذه القصيدة التي بين أيدين.

وقد قسمت بحثي هذا إلى مبحثين:

المبحث الأول: مسلم بن الوليد (حياته وشعره).

المبحث الثاني: قصيدة مسلم وتحليلها.

أما مصادر هذا البحث متعددة ومتنوعة منها أمهات الكتب وهي ما اعتمدت على كتب اللغة والأدب والنقد والبلاغة يأتي في مقدمتها: كتاب الأغاني للأصبهاني وكتاب لسان العرب لابن منظور إضافة إلى ديوان الشاعر مسلم بن الوليد.

وعلى الرغم من بساطة هذا العمل الأدبي وسهولة أدائه إلا أنه كأي عمل أدبي آخر لابد أن تواجهه بعض الصعاب وتعترضه بعض العقبات ولعل في مقدمتها وأبرزها جهلي وقلة خبرتي وضعف ثقافتي في علوم اللغة العربية على وجه العموم وفي الأدب والشعر على وجه الخصوص، فهذه العلوم تعد بحراً عميقاً لابد لمن يغامر بالإبحار فيه أن يكون سباحاً ماهراً وغواصاً قديراً وربّاناً خبيراً يعلم ظواهر الأمور وبواطنها ومعاني الكلمات مرادها وألوان البديع بأصنافها وأنواعها،فمن أين لمثلي كل هذا وأنا ما زلت مجرد نبتة صغيرة وضعت في أرض اللغة والأدب وزرعت ولكن ما زالت محتاجة إلى ري وسُقيا وطول تعهد حتى تنمو وتترعرع وتؤتي ثمارها طيبة بإذن الله.

ولعل من الصعاب أيضاً قلة الشروح وعدم استيفائها جميع الأبيات للقصيدة التي بين أيدينا.ولكني حاولت جاهدة أن أضع بين يديّ القارئ عملاً ذا قيمة وفائدة لعله يوضح جانباً من جوانب حياة مسلم بن الوليد وشعره.

وأعتذر عن تقصيري وعدم إجادتي في هذا العمل،كما أعتذر عن أي خطأ أو زلل قد يكون جاء عفوياً دون قصد مني.

ولا يسعني هنا إلا أن أتقدم بكل الشكر والتقدير إلى دكتورتي الفاضلة الدكتورة/ ابتسام با حمدان على كل ما قدمته لي ولن جميعاً من تشجيع ودعم ونصيحة في محاولتي لتحليل هذه الأبيات وعلى ما قدمته قبل ذلك من تعليم وتعريف بالأدب والأدباء والشعر والشعراء فلها موفور الشكر والثناء وجزاها الله خير الجزاء.

وختاماً الله اسألُ أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ونافعاً لمحبي اللغة العربية وآدابها وأن يكون سبيلاً لفتح نافذة ولو صغيرة على بعض حياة شاعرنا وبيان مكانته،ومدى تأثيره في الشعر العربي الجميل.

هذا والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول

مسلم بن الوليــــــــد (صريع الغواني)

حياته وشعره

اسمه: مسلم بن الوليد الأنصاري.اختلف الباحثون في أبيه أهو من الأنصار أم من الموالي فقال بعضهم من أمثال أبي الفرج الأصفهاني (إنه مولى الأنصار)(1) وقال بعضهم أمثال ابن قتيبة (إنه من أبناء الأنصار)(2) أما أمه فهي مولاة آل رزين.ولم يتيسر لنا معرفة الجنس الذي انحدر منه.

 

كنيته: كان يكنى باسم والده أي بأبي الوليد.

لقبه: صريع الغواني واختلف الباحثون أيضاً في بيان سبب إطلاق هذا اللقب عليه فبعضهم روى أن الذي أطلق عليه هذا اللقب هو هارون الرشيد عندما أنشده قصيدته التي منها:

 

وما العيش إلا أن تروح مع الصبا

 

صريع حميا الكأس والأعين النجل

 

فلقبه الرشيد يومئذ بصريع الغواني لهذا البيت.

ونقل في بعض كتب الأدب (أن رجلاً سأل مسلم بن الوليد عن سبب هذا اللقب فأنشد مسلم:

 

إن ورد الخدود والأعين النجل
واسوداد الصدغين في أوضح الخـ
تركتني لدى الغواني صريعاً

 

وما في الثغور من أقحوان
د وخافي الصدور من رمان
فلهذا أدعى (صريع الغواني)(3)

 

فهذا اللقب يدل فعلاً على أنه كان صريعاً للغواني فديوانه ممتلئاً بكلمة صريع وممتلئ أيضاً بأوصاف الغواني.

مولده ونشأته:

ولد في مدينة الكوفة حوالي منتصف القرن الثاني للهجرة ولا نعلم حقيقة العام الذي ولد فيه فكما اختلف في أبيه اختلف أيضاً في مولده وقد نشأ الطفل مسلم بن الوليد في الكوفة مهد العلوم والفنون والأدب فترعرع وتربى في بيئة مليئة بالعلماء والأدباء والشعراء.

كانت أسرته من الأسر الفقيرة فقد كان والده يعمل حائكاً يسعى لكسب قوته وقوت عياله كما عرف عن أسرته الصلاح والاستقامة.

أما بالنسبة لإخوته فلا نعرف منهم إلا سليمان الذي ابتلي بالعمى وقد كان شاعراً متأثراً ببشار بن برد لكن شعره المروي قليل.

صفاته: كان فطيناً ذكياً ـ حلواً، سوياً، جميل الطلعة، غير مشوه الخلقة وغير دميم الوجه وهذا ما أبهج نفسه وبعث فيه الغرور كونه محبوباً من النساء رائقاً لأعينهن ويفهم من شعره أنه كان سميناً لكن السمنة التي كانت فيه لم تكن قبيحة بل كانت مقبولة فهي سمنة لا تتعارض مع الحب كما يقول هو رداً على من تعجب من اجتماع الحب وعدم الهزال عنده أما أخلاقه فقد كان كريماً مسرفاً في كرمه، هادئاً، حليماً، وقوراً، متروياً في الأمور وإعمال الفكر فيها، مرحاً، مداعباً لأصدقائه،وفياً، مخلصاً لمن اتصل بهم،رقيق العاطفة، واقعياً في نظرته للحياة كما أنه كان مولعاً باللهو واللعب والشراب، شغوفاً بالنساء، معجباً بفنه وثقته بشاعريته.

 

مذهبه:

لم يكن متحيزاً لحزب دون آخر فهو لم ينشغل كغيره من الشعراء وإنما كان يحب أن يعيش حياة كريمة عنده المال الذي يحتاجه ولا شأن له بغيره.

وقيل أنه كان متشيعاً لآل البيت إلا أن هذا التشييع عنده في مرحلة لا تتعدى الألم الداخلي والكبت الداخلي.

 

 

 

 

أسرته:

تزوج مسلم وشهدت له زوجته بحسن أخلاقه وطيب وداده وعظيم إخلاصه على الرغم من كثرة مغامرته مع الغواني. ولعل زوجته كانت تعلم أن هذه الأسماء التي في شعره إنما هي رموز لا حقيقة لها أو ربما هي توهم نفسها بذلك ولا تدري شيئاً عن حياته خارج البيت.

(وقد أنجب مسلم ثلاثة أولاد وابنة، الأولاد هم (عبد الله ومحمد وخارجة) أما ابنته فلم يذكر الباحثون اسمها)(1).

 

شعره:

عاش مسلم بن الوليد متكسباً بشعره يمدح هذا وذاك ويأخذ على ذلك الأجر الوفير والمال الكثير فانتقل من أمير إلى آخر ومن ممدوح إلى ثان وثالث وقد انتقل من الكوفة إلى بغداد في مطلع شبابه وذلك لكي يتصل بالأمراء والوزراء فيقول فيهم وينال عطاياهم، فهو يمدح كل من يعطيه فمدح البرامكة ومدح يزيد بن مزيد وهم كانوا على خلاف.

أما طريقة شعره فقد مزج بين شعر البادية وشعر الحاضرة وتفنن في ألوان الشعر متعلقاً بعمود الشعر واتخذ طريقة بعض القدماء في التكلف باللفظ وكان يتبع طريقة كثير من الفحول في تجويده في المعنى وعنايته به.

أما ألوان شعره فمتعددة منها المديح والهجاء والرثاء والوصف والغزل فيمدح لأجل المال والجاه والمجد ويهجو هجاءً لاذعاً كل من وقف في طريقه من الشعراء الذين يحاولون إبعاده عن الشهرة والمجد أما رثاؤه يعتمد على ذكر الكرم والشجاعة وأما وصفه فهو كثير يحكي فيه عن البيئة التي كان يعيش فيها.ول نظرنا إلى الغزل فحدّث ولا حرج فهو صريع الغواني الذي عشق النساء وتغزل بهن.

 

 

 

وفاته:

انتقل شاعرنا من بغداد إلى جرجان وأصبح عاملاً للبريد فيها ولكنه ظل مشتاقاً إلى بغداد. عرف عنه في آخر أيامه الورع والزهد والتنسك فقد قيل أن راويته جاءت إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره فتغافله مسلم ثم أخذ منه الدفتر فقذف به في البحر فلهذا قل شعره فليس في أيدي الناس منه إلا ما كان بالعراق.

( كما أنه بدأ يتنكر للقبه الذي أحبه كثيراً فإذا سأله أبو نواس عن معنى قوله:

 لا تذع بي الشوق إني غير معمور

أجابه مسلم:

(لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك)(1)

ظل الشاعر بجرجان حتى مات غريباً نائياً في عام 208هـ فرثاه أصدقاؤه من الشعراء كما رثاه ابنه خارجه فقال:

 

تعطلت الأشعار من بعد مسلم
إذا مرضت أشعار قوم فإنه

 

وصارت دعاويها إلى كل معجمِ
يجيئك منها بالصحيح المُسَلِّمِ

 

أقوال الأدباء والخلفاء والنقاد فيه:

أعجب بعض النقاد والخلفاء والأمراء والعامة بشعر مسلم وقد قال عنه ابن شرف القيرواني: (وأما صريع فكلامه مرصع، ونظامه مُصَّنع،وغزله عذب مستعذب وجُملةُ شعره صحيحة الأصول قليلة الفضول، وشبهه بزهير والنابغة)(2).

وقال عنه المأمون لما خاض أصحابه في شعره: (هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره)

أما هارون الرشيد فقد عنّف يزيد بن مريم لأنه لم يكرم مسلم بما يستحق وذلك لما كان يرى من جودة شعره وتفوقه في ألوانه وفنونه.

وقال عنه ابن قتيبة: ( كان مسلم مدّاحاً حسناً)(3).

 

وقد قال عنه كثير من الكتاب: (إنه أفسد الشعر بإدخاله فن البديع)(1)

ونفى ابن المعتز هذه التهمة عنه فقال: (إن البديع كان موجوداً من قبله لكنه أكثر منه في شعره)(2)

فمن شعره الذي نقدوه فيه ذلك البيت الذي قال فيه:

 

سلت فسلت ثم سل سليلها

 

فأتى سليل سليلها مسلولا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني

 

 

قصيـــــــــدة مســـــــلم

مناسبة النص:

هذه القصيدة نظمها صريع الغواني (مسلم بن الوليد) يمدح فيها زيد بن مسلم الحنفي . وكان الهدف من مدحه هذا هو نيل العطاء والمال من الممدوح.

يقول مسلم بن الوليد يمدح زيد بن مسلم:

(1) أَأُعْلِنُ مَا بِي أَمْ أُسِرُّ فأًنْتُمَ
(2) أَثِيْبُوا بِوُدٍّ أَوْ أثيبُوا بَهِجْرَةٍ
(3) طَفَوْتُ عَلى بَحْرِ الْهَوى فَدَعَوْتُكمْ
(4) لِتَسْتَنقِْذونِي أَوْ تُغيثوا بِرَحْمُةٍ
(5) رَكِبْتُ على اسْم الِلهِ بَحْرَ هَواكُمُ
(6) تَعَلَّقْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَعْرفَ الهْوَى
(7) تُخَبِّرني اْلأَحْلامُ أَني أَراكُمُ
(8) حَجَجْتُ مع اْلفُسَّاقِ في حَجَّةِ الْهَوى
(9) يَقولونَ لِي: أَخْفِ الْهَوى لاَ تَبُحْ بهِ
(10) أَ أَظْلِمُ قَلْبي لَيْسَ قَلبْي بِظَالِمٍ
(11) أَلاَ عَظَّمَتْ ما باحَ مِنيِّ مِنَ الْهَوى
(12) شَكَوْتُ إِلَيْها حُبَّها فَتَبَسَّمَتْ
(13) فَقُلْتُ لَها: جُودي فَأَبْدَتْ تَجَهُّماً
(14) ومَا أناَ في وَصْلي لها بِمَفَرِّطِ
(15) يُعَاوِنُها قَلْبي عَلىَّ جَهالَةً
(16) وَكُنْتُ زَمَاناً أجَحْدُ النَّاسَ ذِكْرهَا
(17) فأَصْبَحْتُ كَذَّاباً لِكِتْمانِيَ الْهَوى
(18) تَوَسَّطْتُ بَحْرَ الحُبِّ حِينَ ركِبْتُهُ
(19) فَواللِه ما أدْري وَإني لَهائِمٌ
(20) إذا شِئْتُما أنْ تَسْقياني مُدَامَةً
(21) خَلَطْنا دَماً مِنْ كَوْمَةٍ بِدِمائِنا
(22) وَيَقْظَى يَبيتُ القوْمُ فيها بِسكْرةٍ
(23) فَأغْضَتْ وللأكْواسِ في وَجْهِ رَبَّها
(24) فَمَنْ لامَني في اللَّهْوِ أوْ لامَ في النَّدى
(25) لَعَمْري لَقَدْ بِذَّ الكِرام فَمَالَهُ
(26) لَئِنْ أَحْرَزَ العَليْاَءَ (زَيْدٌ) فَقَبْلَهُ
(27) وَمَا النَّاسُ إلاَّ إثْنانِ فيهِ فَراغِبٌ
(28) أَطَلَّتْ عَلى أعْدَائِهِ وَعُفاتِهِ
(29) فَتًى لا تَرَى كَفَّاهُ لِلمْال حُرْمَةً
(30) إذا حَلَّ أرْضاً حَلهَّا البْأْسُ وَالنَّدى
(31) وَلم تَرَ قَوْماً حارَبُوهُ فَأدْرَكوا
(32) وَمَا مَرَّ يَوْمٌ قطُّ إلا جَرَتْ بِهِ
(33) أثارَ حروبَ المالِ بالْبَذْلِ والنَّدى
(34) جبانٌ عنِ الإمساكِ غَيْرُ تَخَلُّق
(35) تُسَرُّ بِوَفْدِ السَّائِلينَ كُنُوُزهُ
(36) وَمُثْرمِنَ الْمْعروفِ والبْأسِ وَالنَّدى
(37) كفى البخلاء السائلين بجوده
(38)  تبلج للإشراف بيضاً وجوهها
(39) به تحرز الغايات بكر ووائل
(40) (حنيفة) قوم لا تزال أكفهم
(41) أقام الندى منه (وائل) حين حصلت
(42) وما ظلموا، لكن نفوس عداتهم
(43) سل الحرب عن (زيد) إذا هي أوقدت
(44) وصافح حد البيض بيض كماتها
(45) وذم كمي واستفز مبارز
(46) يخبرك عن (زيد) بحسن بلائه
(47) وقافية أحييت في أخواتها
(48) بعثت لها قلباً ذكياً وفطنة
(49) فلما أتتني مستقيماً قريضها
(50) حبوت بها (زيداً) فزينت ذكره
(51) إذا القرم (زيد) لم يقفك على الندى
(52) (أبا حسن) أصبحت مالي وسيلة
(53) عطاؤك موفور وعرفك واسع
(54) وفعلك محمود ومجدك شامخ

 

َوكَيْفَ وَفِي وَجْهي ِمنَ الحُبِّ مَعْلَمُ
وَلاَ تَقْتُلوني إنَّ قَتْلِي مُحَرَّمُ
دُعَاَء غَرِيقٍ مَالَهُ مُتَعَوَّمُ
فَلَمْ َتَسْتجَيبوا لي وَلَمْ تَتَرحَّموا
فَيا رَبِّ سَلِّمْ أَنْتَ أَنْتَ الْمسُلِّمُ
فَلا تَقْتُلوُني إننَّي مُتَعَلِّمُ
فَوَيْلي إلى كَمْ ِبْالأباطِيلِ أحْلُمُ
وَإني لَفي أثْوابِ حُبِّكِ مُحْرِمُ
وَكيْفَ وَطَرْفي بالهَوَى يَتَكَلَّمُ
وَلكِنَّ مَنْ أهْوى يَجُورُ ويَظَلْمِ
وَما في ضَميرِ الْقَلْبِ أَدْهى وَأعْظَمُ
وَلَمْ أَرَ شَمْساً قَبْلهَا تَتَبَسَّمُ
لِتقْتُلَني يا حُسْنَها إذ تَجَهَّم(1)
وَلكِننَّي أَخْشى الوْشاةَ فأصْرِمُ
وَأوشِكُ يبلى حُبُّها ثُمَّ يَنْدَمُ
فَكَذَّبنَي دَمْعٌ مِنَ الْوَجْدِ يَسْجُمُ
وَصارَ إلى الإعْلانِ ما كُنْتُ أكْتُمُ
فَفَرَّقني آذِيُّهُ المتُلَطِّمُ(2)
أأرْجِعُ خَلْفي فِيهِ أمْ أَتَقَدَّمُ
فَلا تَقْتُلاها كُلُّ مَيْتٍ مُحرَّمُ(1)
فأظهر في الألوان منا الدم الدم
بصهباء صرعاها من السكر نوم
لهيب تلون الورد أو هو أضرم
أبا حسن (زيد) الندى فهو ألوم
نظير إذا عد الأكارم يعلم
حواها (أبو زيد) أخو الجود (مسلم)
إليه ومجهود الصنيعة مرغم
مخايل ودق صوبها الماء والدم
إذا لم يكن في كل يوم يقسم
فأيسر ذو عسر وعز مهضم
نجاة ولا قوما رجوه فأعدموا
على الناس من كفيه بؤسى وأنعم
فنيرانها في كل يوم تضرم
وفي البذل والإعطاء ليث مصمم
ليحويها منهم بخيل ملوم
عديم من السوءات والبخل مصرم(2)
وقصر عنه الجائدون فأحجموا
إذا ذكرت (زيداً) عبيد وارقم
إذا عد بأس أو ندى أو تكرم
تشيم العطايا والمنايا فتسجم
على رهط (زيد) فهو فهيم مخيم
وأموالهم في الناس منهم تظلم
ودب لها شرب من الموت مفعم
وكان عناء الخيل فيها التحمحم
وأرهب مرهوب وخاطر مقدم
ظبات سيوف والوشيج المقوم
وفيها نجوم الليل والناس نوم
وفول لسان صادق ليس يفحم
مثقفة البنيان والأس محكم
كما زين السلك الجمان المنظم
فمت فالندى من غير زيد محرم
إليك ولا حبل سوى الود مبرم
وعرضك ممنوع ومالك مسلم
وجودك موجود وبحرك خضرم

 

تحليـــــــــل النــــــــص

 

البحر والموسيقى

نلاحظ أن الهوية العروضية للقصيدة في بحر الطويل ووزنه هو:

فعلون مفاعلين فعولن مفاعلين

 

فعولن مفاعلين فعولن مفاعلين

يعد هذا البحر من البحور الأكثر استخداماً في الشعر العربي فقد نُظُم منه ما يقرب ثلث الشعر العربي كيف لا فإنه الوزن الذي كان القدماء يؤثرونه على غيره ويتخذونه ميزاناً لأشعارهم وخاصة في الأغراض الجدية الجليلة الشأن.

فنرى أن الشاعر قد اختار هذا البحر بحراً لقصيدته وربما كان الإختيار يتناسب مع موقفه من الممدوح ومع غرض القصيدة وهو المدح فبحر الطويل باسمه الطويل يدل على طول نفس الشاعر في مدحه وشعره ويدل على شدة حبه وتعلقه بالممدوح، ونرى أن الشاعر ابتدأ ميميته بالتقفية،والتقفية: مصطلح عروضي يطلق على الأبيات التي يتحدد مصراعاها أي شطرها في نوع القافية ولا يتبع ذلك تغيير في وزن العروض لتناسب الضرب وهذا محسن بديعي يعطي البيت إيقاعاً واضحاً ويكون في مطلع القصيدة وقد يجيء فقي داخل القصيدة.

كما نلاحظ أن قافية القصيدة ميمية مطلقة، ويعد روي الميم كصوت يمتلك خصائص وصفات متعددة كالشفورية والجهر والفنة وربما كان هذا الحرف يؤدي غرضاً هاماً وهو التلميح إلى الممدوح بحال الفقر التي يحياها الشاعر حتى أغلق فمه من شدة جوعه وفقره وحاجته إلى العطاء،فالميم مخرجها تنغلق الشفتان عليها فيكون الفم مغلقاً فكأنه رمز إلى الحاجة والفقر، كذلك لو نظرنا إلى حرف الميم في بعض الكلمات لوجدناه أول حرف في كلمة (مال) وآخر حرف في كلمة (كرم) لهذا نجد أن هذا الحرف انسجم في خصائصه مع مقصد الشاعر وإحساسه.

هذا في البحر والقافية. أما لو نظرنا إلى الموسيقى الموجودة في هذه الأبيات نجد أن الشاعر أثرى الجانب الموسيقي إثراءً واضحاً وذلك عند استخدامه التكرار سواء كان هذا التكرار تكراراً للحرف أو تكراراً للألفاظ وما يشتق منها فمن تكرار الحرف قوله:

ولم تر قوماً حاربوه فأدركوا
وما مر يوم قط إلا جرت به
ومثر من المعروف والبأس والندى

 

نجاة ولا قوماً رجوه فأعدموا
على الناس من كفيه بؤسى وأنعم
عديم من السوءات والنجل مصرم

نرى أن الشاعر كرر حرف الواو فشكل إيقاعاً وموسيقية أثرت في القصيدة ولعله عمد إلى ذلك لربط أجزاء القصيدة ببعضها البعض، كما نرى أن الشاعر قرن بين الألفاظ وأتى بجمل قصار وكرر حرف الكاف ليزيد من الإيقاع فقال:

عطاؤك موفور وعرفك واسع
وفعلك محمود ومجدك شامخ

 

وعرضك ممنوع ومالك مسلم
وجودك موجود وبحرك خضرم

أيضاً تكراره للضمير المنفصل تأكيداً وزيادة في الإيقاع وذلك بقوله:

ركبت على اسم الله بحر هواكم

 

فيا رب سلم أنت أنت المسلم

وإذا نظرنا إلى القصيدة نجد أن الشاعر قام بتكرار الألفاظ الذي أحدث إيقاعاً رائعاً جعلنا نستمتع بالإسترسال في قراءة النص، فمن هذه الألفاظ كلمة (الندى) والتي تعني الكرم وهو ما يصبو إليه الشاعر وما كان يغزو إليه من هذا الممدوح وهو نيل العطايا وأن يجود عليه بكرمه ولهذا أخذ يكرر هذه اللفظة على هذا النحو:

إذا حل أرضاً حلها البأس والندى
أثار حروب المال بالبذل والندى
ومثر من المعروف والبأس والندى
أقام الندى من وائل حين حصلت

 

فأيسر ذو عسر وعز مهضم
فنيرانها في كل يوم تضرم
عديم من السوءات والبخل مصرم
على رهط زيد فهو فهيم مخيم

بل إنه لم يكتف بتكرار كلمة الندى وإنما قام بإضافة الممدوح وهو (زيد) إلى الندى فكأن زيداً والندى شئ واحد ولعله عمد إلى ذلك ليدلل على مدى كرم الممدوح وسخائه وذلك بقوله:

فمن لامني في اللهو أو لام في الندى

 

أبا حسن زيد الندى فهو ألوم

أيضاً يبالغ الشاعر في كرم ممدوحه فيقول: إذا زيد لم يعطك من ماله ولم يجد عليك بكرمه وسخائه فالأفضل لك أن تموت ولا تسأل أحداً غيره عطاءً أو مالاً لأن الكرم والعطاء من غيره محرم لا يُنال فقد قصر الكرم مرة أخرى على زيد بن مسلم دون غيره من الكرام فقال:

إذا القوم زيد لم يقفك على الندى

 

فمت فالندى من غير زيد محرم

كذلك يكرر الشاعر لفظ (الهوى) كي يبين لممدوحه مدى حبه الشديد له، أيضاً كيف لا يكرر هذه اللفظة وهو صريع الغواني فهذه الكلمة ملازمة له ولشعره فهو أشهر الشعراء في الهوى والعشق،يقول:

تعلقتكم من قبل أن أعرف الهوى
حججت مع العشاق في حجة الهوى
ألا عظمت ما باح مني من الهوى
فأصبحت كذاباً لكتماني الهوى
يقولون لي: أخف الهوى لا تبح به

 

فلا تقتلوني إنني متعلم
وإني لفي أثواب حبك محرم
ومافي ضمير القلب أدهى وأعظم
وصار إلى الإعلان ما كنت أكتم
وكيف وطرفي بالهوى يتكلم

ويكرر ذكر اسم ممدوحه ليخصه بالكرم والشجاعة فكأنه يتلذذ بذكره فيعمد إلى تكراره فكأن فؤاده ينبض حباً بهذا الاسم فيقول:

فمن لامني في اللهو أو لام في الندى
لئن أحرز العلياء زيد فقبله
أقام الندى من وائل حين حصلت
سل الحرب عن زيد إذا هي أوقدت
يخبرك عن زيد بحسين بلائه
حبوت بها زيداً فزينت ذكره

 

أبا حسن زيد الندى فهو ألوم
حواها أبو زيد أخو الجود مسلم
على رهط زيد فهو فيهم مخيم
ودب لها شرب من الموت مفعم
ظبات سيوف والوشيج المقوم
كما زين السلك الجمان المنظم

وهناك ألفاظ كثيرة راح يكررها وكلها تدور في دائرة الحب والكرم والشجاعة فكأن هذا التكرار قد عمل على صنع وحدة في هذه الأبيات إضافة إلى أنه أحدث إيقاعاً راعاً فقي موسيقى النص.

 

التكرار البديعي في النص:

يعد هذا التكرار من مقومات الجمال في النص فما يزيده إلا حسناً ولا يبعث في دواخلنا إلا الشعور بالرغبة في مواصلة قراءة الأبيات، فنلاحظ أن هذا الترديد وهذا التلوين الموسيقى تتردد أصداؤه داخل البيت الواحد وهذا الترديد الموسيقى ناجم عن طبيعة الجناس وعملية إحكام مواقعه وتوزيعه داخل البيت الواحد على نحول قوله:

وصافح حد البيض بيض كلماتها
وذم كمي واستفز مبارز
وفعلك محمود ومجدك شامخ

 

وكان عناء الخيل فيها التحمحم
وأرهب مرهوب وخاطر مقدم
وجودك موجود وبحرك خضرم

نجد أن بين كلمتي (البيض ـ بيض) وكلمتي (أرهب ـ مرهوب) أيضاً (جودك موجود) جناس أحدث لوناً إيقاعياً في البيت.

وينفذ شاعرنا إلى أنماط بديعية أخرى غير الجناس فيلجأ إلى تكرير أكثر من لفظه داخل البيت الشعري الواحد ليساهم ذلك من رفع قيمة الإيقاع كما في قوله:

 

أأظلم قلبي ليس قلبي بظالم
خلطنا دماً من كومة بدمائنا

 

ولكن من أهوى يجور ويظلم
فأظهر في الألوان منا الدم الدم

ولا نغفل حقيقة عن تكرار الشاعر في الأفكار فكلما كرر في الألفاظ والحروف نراه يكرر في الأفكار وهذه العادة يفعلها في كثير من قصائده وغايته من ذلك التأكيد عليها،فيقول في أول الأبيات:

طفوت على بحر الهوى فدعوتكم
لتستنقذوني أو تغيثوا برحمة
ركبت على اسم الله بحر هواكم

 

دعاء غريق ماله متعوم
فلم تستجيبوا لي ولم تترحموا
فيا رب سلم أنت أنت المسلم

ثم كرر نفس الفكرة فقال:

توسطت بحر الحب حين ركبته

 

فغرقني آذيّه المتلطم

التكرار الإبداعي:

نرى أن الشاعر أتى بفن بديعي وهو رد العجز على الصدر مما زاد في موسيقاه وجعلها تتأتى بموسيقى متوازنة وإيقاع متناغم وهو قوله:

أأظلم قلبي ليس قلبي بظالم
ألا عظمت ما باح مني من الهوى
شكوت إليها حبها فتبسمت
فقلت لها جودي فأبدت تجهماً

 

ولكن من أهوى يجور ويظلم
وما في ضمير القلب أدهى وأعظم
ولم أر شمساً قبلها تتبسم
لتقتلني يا حسنها إذ تجهم

ونرى أن النص ملئ بالأسماء والأفعال المضمومة ولعل الشاعر قصد ذلك لكي يحدث اتساقاً مع الروي المضموم على نحو:

توسطتُ بحر الحب حين ركبتُهُ
وما الناس إلا اثنان فيه فراغبٌ

 

فغرقني آذيّه المتلطمُ
إليه ومجهود الصنيعة مرغمُ

 

الألفاظ:

تعد الألفاظ في مقدمة البناء الشعري كيف لا وهي الركيزة الأساسية التي يسعى الشاعر إلى توظيفها في النص توظيفاً مناسباً وملائماً لغرضه الذي يسعى من أجله، فيمكننا تصنيف الألفاظ في القصيدة إلى المحاور التالية:

 

-  المدح بالكرم: لام في الندى ـ زيد الندى ـ بذ الكرام ـ لا ترى كفاه للمال حرمة ـ فأيسر ذو عسر ـ أثار حروب المال بالبذل ـ جبان عن الإمساك ـ ومثرمن المعروف والبأس والندى ـ كفى البخلاء السائلين بجوده ـ فمت فالندى من غير زيد محرم ـ عطاؤك موفور ـ جودك موجود.

-  المدح بالشجاعة: لم تر قوماً حاربوه فأدركوا نجاة ـ سل الحرب عن زيد ـ ودب لها شرب من الموت مفعم ـ صافح حد البيض بيض كماتها ـ وكان عناء الخيل فيها التحمحم ـ ذم كمتي ـ واستفز مبارز ـ أرهب مرهوب  وخاطر مقدم ـ يخبرك عن زيد بحسن بلائه ظبات سيوف والوشيج المقوّم.

نلاحظ اختيار الشاعر للألفاظ الدالة على الكرم والشجاعة لم يكن اختياراً عشوائياً وإنما مدح ممدوحه بأسمى وأنبل الصفات عند العرب ولعله أستعان ببيت جرير الذي عده العرب أجود ما قيل في المدح حين قال يمدح عبد الملك بن مروان:

ألستم خير من ركب المطايا

 

وأندى العالمين بطون راح

ونرى أن الشاعر في مديحه بصير بمراعاة مقامات الكلام فالصفات التي يسبغ على ممدوحه يتعمد أن تكون من صفات الأشراف وعلية القوم،فيتخير الألفاظ القوية والأرفع منزلة والأعز مكانة وأصعبها مرتقى وكان ذلك واضحاً في قوله:

ولم تر قوماً حاربوه فأدركوا

 

نجاة ولا قوماً رجوه فأعدموا

-  وصف الخمر: أن تسقياني مدامة ـ خلطنا دماً من كومة بدمائنا ـ ويقظى يبيت القوم فيها بسكرة ـ فأغضت وللأكواس في وجه ربها لهيب.

-  الغزل: وكيف وفي وجهي من الحب معلم ـ ركبت على اسم الله بحر هو أكمد حججت مع العشاق ـ أخف الهوى ـ ألا عظمت ما باح مني من الهوى ـ شكوت إليها حبها فتبسمت ـ وكنت زماناً أجحد الناس ذكرها.

-  الفخر بالذات: بعثت لها قلباً ذكياً وفطنة ـ قول لسان صادق ليس يفحم ـ مثقفة البنيان والأس محكم ـ كما زين السلك الجمان المنظم.

يمكننا الحديث عن تقنيات تتحكم في تشكيل الألفاظ الشعرية لأي نص وذلك عن

 

طريق العموم والخصوص وتعتبر هذه التقنية أساسية فيمكننا حصر الألفاظ التي شكلت البناء الكلي للنص وذلك في:

بنية المدح:

تعتبر كلمتي الندى والشجاعة دلالة يتم التركيز عليها في بنية المدح التي تمتد من البيت الرابع والعشرين وحتى نهاية الأبيات أما بقية الألفاظ استعملت استعمالاً ثانوياً لهاتين الكلمتين.

الندى والشجاعة:

زيد الندى ـ أيسر ذو عسر ـ أثار حروب المال ـ عطاؤك موفور ـ جودك موجود ـ سل الحرب ـ صافح حد البيض ـ ذم كمي ـ أرهب مرهوب ـ ظبات سيوف ـ الوشيج المقوم.

فبالرغم من وجود ألفاظ تعد ثانوية في القصيدة كالتغزل ووصف الخمر والفخر بالذات إلا أننا نلاحظ  أن الشاعر قد أوجز في وصفها على اعتبار أن ليس هذا ما يسعى إليه وإنما كما قلت سابقاً ينهج نهج القدماء حيث بدأ قصيدته بالمقدمة الطلبية وربما لجأ إليها في قصيدته لإظهار حبه للمدوح ومدى إخلاصه وولائه له لكي يستعطفه ويميل إليه لهذا قلت ألفاظه في هذه الأغراض إذا ما قورنت بالشكل العام للقصيدة.

الترابط والتداعي الحر: يعد الترابط والتداعي الحر من أهم ركائز النص الشعري ودعائمه فالمعنى العادي والمتعارف عليه إذا صاغه الشاعر بطريقة متميزة اكتسب قيمة إبداعية متميزة.

ونرى في هذه القصيدة ترابط بطريقة التقابل فلقد عمد الشاعر إلى جعله موزعاً في أجزاء القصيدة وذلك لتأكيد معانيه وإيصالها إلى ممدوحه وإلى المتلقي أيضاً ليحدث جمالية تؤثر وتطبع انعكاساً إيجابياً في نفسية ممدوحه وربما نفسية المتلقي أيضاً فمن هذه المقابلة:

 

 

 

أأعلن              أسر                        في البيت الأول

ما باح مني          ما في ضمير القلب    في البيت الحادي عشر

حسنها              تجهم                    في البيت الثالث عشر

كتماني            الإعلان                   في البيت السابع عشر

أأرجع             أتقدم                      في البيت التاسع عشر

أيسر              عسر                      في البيت الثلاثون

الإمساك          الإعطاء                  في البيت الرابع والثلاثون

 

فما أراده الشاعر هنا في وضعه لهذه الألفاظ وجملها في صورت التقابل ليجنب موسيقاه الرتابة فراح ينوع فيها والتي أعطت جواً رائعاً في النص.

أيضاً لو تأملنا الألفاظ في مدحه لكرم ممدوحه عندما قال:

أثار حروب المال بالبذل والندى

 

فنيرانها في كل يوم تضرّم

فالشاعر يقول إن زيداً أثار وأشعل حروباً من نوع جديد وهي حروب المال والمنافسة بين أقرانه في الكرم والسخاء فنيران هذه الحروب مشتعلة كل يوم لا تنطفئ أبداً فاختياره للفظة حروب توحي بقوة في اللفظة كما نرى في قوله تضرّم ولم يقل تضرم وإنما ضعف في اللفظة دلالة على استمرارية هذه العطايا كما نجد أنها أكسبت البيت إيقاعاً قوياً وموسيقية قوية.

 

 

التراكيب:

الزمن للفعل: يعد معرفة الزمن الفعلي عنصراً أساسياً في أي نص شعري لأن هذه الأفعال لم يضعها الشاعر بصورة عشوائية وإنما يتعمد وضعها حتى تكسب مقطوعته جمالاً نستشعره من خلال هذه الأفعال ونرى في هذا النص الشعري استخدام الشاعر الأفعال المضارعة أكثر منها في الماضي أما من ناحية توزيعها بين الشاعر وممدوحه نرى أن الفعلين وزعا بطريقة متساوية نوعاً ما.

أيضاً لو تأملنا الأبيات لوجدنا أن الشاعر عندما تحدث عن شجاعة ممدوحه ذكره بفعل الماضي أكثر من المضارع كقوله: أطلت ـ أوقدت ـ دب لها ـ صافح

أما عندما تحدث عن كرم ممدوحه ذكره بفعلي الماضي والمضارع والمضارع كقوله: تسر ـ لا ترى ـ يحويها ـ وربما لم يهتم الشاعر بشجاعة ممدوحه بقدر اهتمامه بكرمه كيف لا وهو مطلبه الأساسي، ولا يعني هذا أن الشاعر لم يكن صادقاً في مدحه لزيد بن مسلم بل نرى صدق مشاعره فقد كان مسلم بن الوليد يحب زيداً كثيراً لأنه يعتبره أكرم من رآه حتى قال فيه:

أفتى حنيفة أنت أجود واحد
ما قلت في أحد سواك علمته

 

كفاً وأكرم من يعد فعالاً
إلا رأيت القول فيه محالا(1)

ونلاحظ أن تجانس الفعلين (الماضي والمضارع) مع بعضهما أعطى النص دلالات جمالية وإيقاعات رائعة وذلك عندما قال:

تبلج للإشراف بيضاً وجوهها

 

إذا ذكرت زيداً عبيد وأرقم

ونرى أن الشاعر أختتم أبياته بجمل اسمية فقال:

عطاؤك موفور وعرفك واسع
وفعلك محمود ومجدك شامخ

 

وعرضك ممنوع مسلم
وجودك موجود وبحرك خضرم

فنلاحظ فيها حسن تقسيم وتطريز ولعل الشاعر أراد من هذه الجمل الاسمية بغيته فأتى بعبارات تؤكد على صفة الكرم والندى المتأصلة في زيد فكأن الشاعر ينبه الممدوح في ختام أبياته على غرضه الأساسي من نظم الأبيات وهو العطاء والمال ولقد أكسبت هذه الجمل الاسمية الأبيات تقسيمات رائعة أعطت إيقاعاً سريعاً مما زاد الأبيات جمالاً وموسيقى في غاية الروعة.

كما نرى في الأبيات تعادلاً ترادفياً وسأكتفي بذكر النموذج التالي لتأكيد ذلك.

عطاؤك موفور وعرفك واسع

نرى تعادلاً ترادفياً وذلك من خلال البنية التركيبية والنحوية حيث أن العبارتين لهما نفس التركيب كما لهما نفس الوظيفة النحوية وكلها وظفها الشاعر لتأكيد المعنى والإلحاح عليه.

فكما رأينا في الأبيات تعادلاً ترادفياً فإننا نرى في الأبيات تعادلاً تناقضياً وذلك في

جبان عن الإمساك غير تخلق

 

وفي البذل والإعطاء ليث مصمم

فقد ربطت بين الشطرين علاقة التناقض على المستوى الدلالي وذلك أن  الشاعر يرسم صورتين مختلفتين للممدوح تتحدد الأولى في حالة الإمساك ويتضمنها صدر البيت جبان عن الإمساك غير تخلق،وتتحدد الثانية في حالة البذل والعطاء ويتضمنها عجزه وفي البذل والإعطاء ليث مصمم فالبيتان متعادلان على مستوى البنية التركيبية:

جبان = ليث

عن الإمساك = في البذل والإعطاء

غير تخلق = مصمم

أيضاً في قوله:

ولم تر قوماً حاربوه فأدركوا

 

نجاة ولا قوماً رجوه فأعدموا

فقد ربطت بين الشطرين علاقة التناقض على المستوى الدلالي أيضاً فرسم صورتين مختلفتين للممدوح تتحدد الأولى في حاله مع أعدائه ويتضمنها صدر البيت ولم ترقوماً حاربوه فأدركوا نجاة، وتتحدد الثانية في حاله مع الضعفاء ويتضمنها عجزه ولا قوماً رجوه فأعدموا.

فالبيتان يتعادلان على مستوى البنية التركيبية:

لم تر قوماً = ولا قوماً

حاربوه = رجوه

فأدركوا نجاة = فأعدموا

فالشاعر جاء بهذا التناقضات ليحدث نوعاً من الموسيقية والإيقاعية في الأبيات.

 

الصور والأخيلة:

أما لو استعرضنا الأبيات من ناحية الصور والأخيلة نرى أن الشاعر أجاد حقيقة في دقة الوصف وتخير الألفاظ المعبرة والمؤثرة والدلالات والاستعارات والكنايات والتشبيهات الجميلة التي أثرت في الأبيات الجمالية والإبداع كقوله ( وطرفي بالهوى يتكلم) فقد شبه عينه بالإنسان الذي يتكلم وهذا على سبيل الاستعارة المكنية ويتكلم كناية عن البكاء ولعل هذا وإن صدق اعتقادي ما يعرف بتراسل الحواس ـ أيضاً في البيت الثاني عشر عندما شبه القلب بالإنسان يساعد ويعاون وحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية وأيضاً قوله: ففرقني آذيه المتلطم وعندما تحدث عن الخمر قال: فال تقتلاها على سبيل التشبيه واستخدم المجاز في قوله: ويقضى يبيت القوم فيها بسكرة وقوله: أطلت على أعدائه مخايل ودق صوبها الماء والدم،حلها البأس والندى، أثار حروب المال، تسر بوفد السائلين، ومثرمن المعروف، تبليغ للإشراف، أقام الندى كل هذه استعارات جاء بها الشاعر ليبين ويؤكد كرم ممدوحه كما نرى أنه يشيد بشجاعة ممدوحه بتلك الاستعارات والتشبيهات منها (وصافح حد البيض، يخبرك عن زيد ظبات سيوف والوشيج المقوم).

واكتفي عن تحليل هذه التعابير بالإشارة إلى ما في قوله (جبان عن الإمساك ...)

هنا يمدح الشاعر زيداً بأنه من شدة كرمه جبان لا يمسك ماله وهذا ما يسمى في علوم البلاغة المدح بما يشبه الذم فهو يمدحه بصفة الجبن وهذا مستغرب ولكننا عندما نعلم أنه جبان عن إمساك ماله نعلم أنه قمة المدح إذ هو يخاف ويجبن أن يحتفظ بماله ويمسكه فهذا الخلق ـ خلق الإمساك ـ ليس خلقه فهو في البذل والعطاء أسد مصمم، أيضاً نراه يشبه الممدوح بالليث وحذف المشبه وصرح بالمشبه به ونلحظ هنا أيضاً ضم صفة الشجاعة إلى صفة الكرم عندما وصفه بالليث.

وقوله (سل الحرب عن زيد ....) شبه الحرب بالإنسان وحذف المشبه به وهذه استعارة مكنية تشخيصية أيضاً نرى في البيت اقتباساً من القرآن وذلك في قوله جل وعلا (واسأل القرية ..)

وأيضاً قوله (حبوت بها زيداً فزينت ... ) يقول إنه لما أحسن نظم قصيدته وأتم بناءها جاء بها هدية جميلة إلى زيد بن مسلم فكانت زينة لذكره وعطراً زكياً لسيرته وحياته فقد جمعت محاسن زيد وجعلتها متناسقة مع بعضها البعض فظهر جمال هذه المحاسن كما تظهر محاسن اللآلي إذا جمعت في سلك واحد منظمة ومحكمة وهنا تشبيه لشعره بالسلك ولمحاسن زيد وصفاته باللؤلؤ. وهذه التشبيهات زينت هذه الأبيات وجعلتها تنتظم بصورة رائعة.

ونرى أن الشاعر يكون قد أدى قصيدته على الوجه الذي يريده هو فمدح ووصف وأثنى على زيد بن مسلم جميل الثناء حتى يصل إلى وفير العطاء وعلى الرغم من جمال القصيدة لم تسلم قصيدة مسلم بن الوليد مما يعيبها وذلك في قوله:

حججت مع العشاق في حجة الهوى

 

وإني لفي أثواب حبك محرم

فالشاعر بالغ مبالغة كبيرة حيث جعل العشاق جميعاً يحجون حجة تسمى حجة الهوى وهو قد حج معهم هذه الحجة لكنه لم يتحلل من إحرامه حتى الآن فهو ما زال محرم بملابس حبها وفي رأي أعتبر هذا البيت من الأخطاء الشرعية التي وقع فيها الشاعر لأنه أدخل الحب والعشق في أمور الدين والعبادة كالحج.

وفي قوله:

يقولون لي:أخف الهوى لا تبح به

 

وكيف وطرفي بالهوى يتكلم

وبين قوله:

وكنت زماناً أجحد الناس ذكرها

 

فكذبني دمع من الوجد يسجم

نلاحظ أن الشاعر يناقض نفسه فهو يقول أن من حوله يقولون أخف حب محبوبتك ولكنه لا يستطيع لأن دمع عينه يفضحه ثم يعود ويقول كنت جاحداً حبها فكذبني دمع عيني.

كذلك لو قورن كلامه في مطلع القصيدة عندما قال:

أأعلن ما بي أم أسر فأكتم

 

وكيف وفي وجهي من الحب معلم

ومن هذا كله نجد في القصيدة ألواناً مختلفة من البديع فالشاعر من الشعراء الذين اهتموا بالبديع وجودها حتى تأثر به كثير من الشعراء الذين جاءوا بعده مثل: أبي تمام ولعل مسلم أكثر من البديع تلبية لحاجات الحياة العباسية لتمثل هذه الألوان البديعية التي تتناسب مع حياة الترف والرفاهية.

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

 

حاولت في هذا البحث أن أقدم تحليلاً بسيطاً لقصيدة مسلم بن الوليد في مدحه لزيد بن مسلم، وسعيت حثياً قي معرفة نهج مسلم بن الوليد وطريقته في مدحه ومدى صدق عاطفته من عدمها ما غايته من هذا المديح،ولقد قمت بشرح الأبيات وتحليلها مستعينة بآراء الأدباء الأفاضل ممن سبروا أغوار تحليل هذه الأبيات،إضافة إلى رأي المتواضع.

أسأل المولى عز وجل أن أكون قد وفقت إلى الإخلاص في عملي هذا وأن أكون قد التزمت الحياد وعدم التعصب للشاعر أو عليه أثناء وتحليلي.

والله أسأل أن يهدينا صواب الرشاد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع

 

م

المصدر أو المرجع

(1)

كتاب الأغاني ـ للأصفهاني، شرحه وكتب هوامشه د/ علي مهنا، د/ سمير جابر ـ الطبعة الثانية ـ الناشر دار الكتب العلمية 1412هـ، لبنان ـبيروت.

(2)

كتاب البديع ـ لابن المعتز، دراسة وتحليل د/ عبد الله عبد الرحيم عسيلان ـ الطبعة الثانية ـ الناشر / النادي الأدبي 1403هـ الرياض.

(3)

كتاب البيان والتبيين للجاحظ ـ تحقيق د/ عبد السلام محمد هارون الطبعة الأولى   الناشر/ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1367م

(4)

كتاب التناص والتلقي (دراسات في الشعر العباسي) د/ ماجد ياسين الجعافرة ـ جامعة اليرموك ـ الطبعة الأولى 2003م   الناشر/ دار الكندي، الأردن، أربد.

(5)

كتاب الشعر والشعراء ـ لابن قتيبة ـ تحقيق وشرح د/ أحمد محمد شاكر ـ الناشر دار إحياء الكتب العربية 1958م مصر القاهرة.

(6)

كتاب العصر العباسي الأول، د/ شوقي ضيف ـ الطبعة الرابعة عشرة  ـ الناشر/ دار المعارف 1966م، مصر، القاهرة.

(7)

رسالة الإنتقاد لابن شرف القيرواني ـ الطبعة الأولى ـ الناشر/ دار الكتب العلمية 1926م، لبنان ـ بيروت.

(8)

كتاب شرح ديوان صريع الغواني ـ تحقيق د/ سامي الدهان ـ الطبعة الثانية ـ الناشر/ دار المعارف 1970م، مصر القاهرة.

(9)

كتاب شرح ديوان صريع الغواني (حياته وشعره) تحقيق: د/ عبد القادر الرباعي ـ الطبعة الثانية   الناشر/ دار العلوم 1983م.

(10)

كتاب لسان العرب لابن منظور، اعتنى بتصحيحه: د/ أمين محمد عبد الوهاب ـ د/ جمال الدين أبو الفضل د/ محمد الصادق العبيدي ـ محمد بن مكرم بن علي ـ الطبعة الثالثة ـ الناشر/ دار إحياء التراث العربي 1419هـ ، لبنان ـ بيروت.

(11)

كتاب لطائف المعارف ـ للثعالبي ـ الطبعة الثانية ـ البابي الحلبي بمصر 1960م.

 

المحتويات

(محتــــــــــويات البحث)

 

م

الموضوع

رقم الصفحة

1

المقدمة

من 2 – 3

2

المبحث الأول

مسلم بن الوليد (حياته وشعره)

من 4 – 8

3

المبحث الثاني

النص الشعري وتحليل النص

من 9 – 22

4

الخاتمة

23

5

المصادر والمراجع

24

 



(1)  الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ص 364، ط الثانية دار الكتب العلمية.

(2)  الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 808، تحقيق/ أحمد محمد شاكر، دار إحياء الكتب العربية.

(3)  لطائف المعارف للثعالبي ص 23، ط 1960م البابي الحلبي بمصر

(1)  شرح ديوان الشاعر صريع الغواني د/ سامي الدهان، ص 20 و21، ط الثانية، دار المعارف بمصر ـ القاهرة

(1)  الأغاني (ملحق الديوان) للأصفهاني ص 374، ط الثانية، دار الكتب العلمية، لبنان ـ بيروت.

(2)  رسالة الانتقاد للقيرواني ص 43، ط الأولى دار الكتب العلمية 1926، لبنان ـ بيروت.

(3)  الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 803، تحقيق: د/ أحمد محمد شاكر، دار إحياء الكتب العربية.

(1)  البيان والتبين للجاحظ ص1، تحقيق/ عبد السلام هرون ط ـ الأولى ـ لجنة التأليف والترجمة ـ الأغاني للأصفهاني ص 368، ط الثانية، دار الكتب العلمية.

(2)  البديع لابن المعتز ص1، دراسة وتحليل: د/ عبد الله عبد الرحيم عسيلان ط الثانية، النادي الأدبي 1403هـ، الرياض.

(1)  التجهم: العبوس. شرح ديوان الشاعر صريع الغواني د/ سامي الدهان، ص 178، ط الثانية دار المعارف بمصر 1119م.

(2)  آذيه: موجه. شرح ديوان صريع الغواني د/ سامي الدهان ص 181، ط الثانية ـ دار المعارف بمصر 1970م.

(1)  صهباء: خمر. شرح ديوان صريع الغواني د/ سامي الدهان ص181، ط الثانية ـ دار المعارف بمصر 1919م.

(2)  مثر: غني. شرح ديوان الشاعر صريع الغواني د/ سامي الدهان، ص 182، ط الثانية ـ دار المعارف بمصر 1970م.

(1)  نشرح ديوان صريع الغواني د/ سامي الدهان، ص 207، ط الثانية، دار المعارف بمصر.


آخر تحديث
5/25/2008 12:41:13 AM